فصل: بَاب فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمَصْرِفِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (نسخة منقحة)



.بَاب فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمَصْرِفِ:

لَمَّا ذَكَرَ أَبْوَابَ الزَّكَاةِ عَلَى تَعْدَادِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْمَصَارِفِ وَالْمَصْرِفُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْدِلُ أَطْلَقَهُ لِيَتَنَاوَلَ الزَّكَاةَ وَالْعُشْرَ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ إنَّمَا لِحَصْرِ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ كَقَوْلِك إنَّمَا زَيْدٌ لَمُنْطَلِقٌ وَلِحَصْرِ الْحُكْمِ فِي الشَّيْءِ كَقَوْلِك إنَّمَا الْمُنْطَلِقُ زَيْدٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّ لِلْإِثْبَاتِ وَمَا لِلنَّفْيِ فَيَقْتَضِي قَصْرَ جِنْسِ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَعْدُودَةِ وَأَنَّهَا هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهَا لَا يُتَجَاوَزُ إلَى غَيْرِهَا كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّمَا هِيَ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ وَعَدَلَ عَنْ اللَّامِ إلَى فِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ لِيُؤْذِنَ أَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ فِي لِلْوِعَاءِ وَتَكْرِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} يُؤْذِنُ بِفَضْلِ تَرْجِيحٍ لِهَذَيْنِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ كَمَا فِي الْكَشَّافِ ثُمَّ الْمَذْكُورُ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ وَقَدْ سَقَطَتْ مِنْهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَجْهُ السُّقُوطِ بَيِّنٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ فَلْيُرَاجَعْ (هُوَ) أَيْ الْمَصْرِفُ (الْفَقِيرُ وَهُوَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ دُونَ نِصَابٍ) فَيَجُوزُ الدَّفْعُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا كَمَا فِي الْعِنَايَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ الْكَسُوبِ وَمَا فِي الْمِعْرَاجِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الدَّفْعِ جَوَازُ الْأَخْذِ كَظَنِّ الْغَنِيِّ فَقِيرًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ جَوَازُ أَخْذِهَا لِمَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ كَمَا يَجُوزُ دَفْعُهَا لَكِنَّ عَدَمَ الْأَخْذِ أَوْلَى لِمَنْ لَهُ سَدَادٌ مِنْ عَيْشٍ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
(وَالْمِسْكِينُ) مِفْعِيلٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا فِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ مِنْ السُّكُونِ؛ لِأَنَّهُ يَسْكُنُ قَلْبُهُ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ فَسَّرَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيَّ وَالْعُرْفِيَّ فَقَالَ (مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ) وَهُوَ أَسْوَءُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ عِنْدَنَا قَالَ الشَّاعِرُ:
**أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ** وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ.
سَمَّاهُ فَقِيرًا وَلَهُ حَلُوبَةٌ (وَقِيلَ بِالْعَكْسِ) يَعْنِي: الْفَقِيرُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ وَالْمِسْكِينُ هُوَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ دُونَ نِصَابٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا صِنْفَانِ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ وَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ لَا فِي الزَّكَاةِ.
(وَالْعَامِلُ) هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُ الْإِمَامُ بِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ عَبَّرَ بِالْعَامِلِ دُونَ الْعَاشِرِ لِيَشْمَلَ السَّاعِيَ (يُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ) مَا يَكْفِيهِ وَأَعْوَانَهُ بِالْوَسَطِ مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثَّمَنِ فَإِنْ اسْتَغْرَقَتْ كِفَايَتُهُ الزَّكَاةَ فَلَا يُزَادُ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ، وَلَوْ هَلَكَ مَا جَمَعَهُ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالثَّمَنِ.
(وَلَوْ) كَانَ (غَنِيًّا) لَا هَاشِمِيًّا لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ الصَّدَقَةِ وَالْأُجْرَةِ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ فِيهَا الْهَاشِمِيُّ وَرُزِقَ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَجَوَّزَ الطَّحَاوِيُّ أَنْ يَكُونَ الْهَاشِمِيُّ عَامِلًا وَإِنَّمَا حَلَّتْ لِلْغَنِيِّ مَعَ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَيَسْتَحِقُّ كِفَايَتَهُ فِي مَالِهِمْ وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُقَوِّي مَا نُسِبَ إلَى بَعْضِ الْفَتَاوَى مِنْ أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إذَا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ وَاسْتِفَادَتِهِ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَيُعْمَلُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَأَيْدِيهِمْ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرًا عَلَيْهِمْ فَصَارَ مَا اسْتَحَقَّهُ صَدَقَةً مِنْ وَجْهٍ أُجْرَةً مِنْ وَجْهٍ.
(وَالْمُكَاتَبُ) عَطْفٌ عَلَى الْفَقِيرِ أَيْ مُكَاتَبُ غَيْرِهِ، وَلَوْ مَوْلَاهُ غَنِيًّا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مُكَاتَبٍ هَاشِمِيٍّ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ (يُعَانُ فِي فَكِّ رَقَبَتِهِ) يَعْنِي بِهِ مُعَاوَنَةَ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ}.
(وَمَدْيُونٌ) وَالْمُرَادُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ أَيْ جِهَةٍ كَانَ وَلَا يَجِدُ قَضَاءً وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْفَقِيرِ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالدَّفْعِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ لَكِنَّ وَجْهَ التَّقْدِيمِ مُوَافَقَتُهُ لِلنَّظْمِ الْكَرِيمِ تَدَبَّرْ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْغَارِمِينَ وَالْغَرَامَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ اللُّزُومُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْغَارِمُ مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ (لَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ) أَيْ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ هُوَ مَصْرِفٌ بِلَا خِلَافٍ مِنْ مَدْيُونٍ مَلَكَ قُوتَ شَهْرٍ يُسَاوِي قِيمَتُهُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
وَفِي الْإِصْلَاحِ لَمْ يَقُلْ فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ لَكِنَّ النِّصَابَ مِائَتَا دِرْهَمٍ مُطْلَقًا وَلِهَذَا قَيَّدَهُ تَدَبَّرْ.
(وَمُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ) الَّذِينَ عَجَزُوا عَنْ اللُّحُوقِ بِجَيْشِ الْإِسْلَامِ لِفَقْرِهِمْ فَتَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ وَإِنْ كَانُوا كَاسِبِينَ إذْ الْكَسْبُ يُقْعِدُهُمْ عَنْ الْجِهَادِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(وَ) مُنْقَطِعُ (الْحَجِّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ) الْمُنْقَطِعُ (فَقِيرًا) فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُكَرَّرٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي وَطَنِهِ مَالٌ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ فَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فَقِيرٌ ؟ أُجِيبُ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَّا أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِ بِالِانْقِطَاعِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مُغَايِرًا لِلْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ الْخَالِي عَنْ هَذَا الْقَيْدِ.
وَفِي الْفَتْحِ وَلَا يُشْكِلُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ لَا يُوجِبُ خِلَافًا فِي الْحُكْمِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِي الْأَصْنَافُ كُلُّهُمْ سِوَى الْعَامِلِ بِشَرْطِ الْفَقْرِ فَمُنْقَطِعُ الْحَاجِّ يُعْطَى اتِّفَاقًا.
(وَمَنْ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ لَا مَعَهُ) وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ فَكُلُّ مَنْ يَكُونُ مُسَافِرًا عَلَى الطَّرِيقِ يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ كَمَا يُسَمَّى ابْنَ الْفَقِيرِ لِلْفَقِيرِ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لِلْأَدَاءِ فِي بَلَدِهِ وَأُلْحِقَ بِهِ كُلُّ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَالِهِ كَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَالْمُكَاتَبِ إذَا عَجَزَ كَمَا فِي الْفَتْحِ.
(وَيَجُوزُ دَفْعُهَا) أَيْ الزَّكَاةِ (إلَى كُلِّهِمْ) أَيْ إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ (وَإِلَى بَعْضِهِمْ)، وَلَوْ شَخْصًا وَاحِدًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّتِي يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ لَا تَعْيِينُ الدَّفْعِ لَهُمْ كَمَا فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَبِهَذَا ظَهَرَ خَلَلُ عِبَارَةِ الْكَنْزِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَيُدْفَعُ إلَى كُلِّهِمْ أَوْ إلَى صِنْفٍ.
تَدَبَّرْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ تُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِاللَّامِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَفِيهِ الِاسْتِغْرَاقُ فَتَبْقَى الْجَمْعِيَّةُ عَلَى حَالِهَا قُلْنَا: حَقِيقَةُ اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَقَدْ يَكُونُ مُجَرَّدًا فَحَاصِلُ التَّرْكِيبِ إضَافَةُ الصَّدَقَاتِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِكُلِّ صَدَقَةٍ تُصْدَقُ إلَى الْأَصْنَافِ الْعَامِّ كُلٍّ مِنْهَا الشَّامِلِ لِكُلِّ فَرْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَجْمَعُونَ أَخَصُّ بِهَا كُلِّهَا وَهَذَا لَا يَقْتَضِي لُزُومَ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ تَنْقَسِمُ عَلَى أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَحَالَ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَقَلُّ الْجَمْعِ مِنْهُ بَلْ إنَّ الصَّدَقَاتِ كُلَّهَا لِلْجَمِيعِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ صَدَقَةٌ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ لَوْ أَمْكَنَ أَوْ كُلُّ صَدَقَةٍ جُزْئِيَّةٍ لِطَائِفَةٍ أَوْ لِوَاحِدٍ كَمَا فِي الْفَتْحِ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: وَنَحْنُ نَقُولُ إذَا دَخَلَ اللَّامُ عَلَى الْجَمْعِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الْمَعْهُودِ وَلَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ يُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ وَتَبْطُلُ الْجَمْعِيَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وَهُنَا لَا يُرَادُ الْعَهْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرِينَةَ لِلْعَهْدِ فِي الْآيَةِ وَالِاسْتِغْرَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا لِجَمِيعِ الْفُقَرَاءِ إلَى آخِرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرَمَ وَاحِدٌ وَلَيْسَ هَذَا فِي وُسْعِ أَحَدٍ انْتَهَى.
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الْفَرَائِدِ فَقَالَ: لَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مِثْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ جَمَعَ الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ أَيْ صَاغَةَ بَلَدِهِ وَعَدَمُ كَوْنِهِ فِي وُسْعِ أَحَدٍ غَيْرَ مُسَلَّمٍ انْتَهَى.
أَقُولُ إنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ الَّتِي فِي الْبَلَدِ لِجَمِيعِ الْفُقَرَاءِ فِيهَا أَيْضًا فَيَلْزَمُ هَذَا الْمَحْذُورُ خُصُوصًا فِي الْبَلَدِ الْكَبِيرِ.
تَدَبَّرْ.
(وَلَا تُدْفَعُ) الزَّكَاةُ (لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ)؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ شَرْطٌ فِيهَا وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَا بِنَاءُ الْقَنَاطِيرِ وَإِصْلَاحُ الطُّرُقَاتِ وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَكُلُّ مَا لَا يُتَمَلَّكُ فِيهِ، وَإِنْ أُرِيدَ الصَّرْفُ إلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ صُرِفَ إلَى فَقِيرٍ ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّرْفِ إلَيْهَا فَيُثَابُ الْمُزَكِّي وَالْفَقِيرُ وَلَا يَصْرِفُ إلَى مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ غَيْرِ مُرَاهِقٍ إلَّا إذَا قَبَضَ لَهُمَا مَنْ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُهُ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَيَصْرِفُ إلَى مُرَاهِقٍ يَعْقِلُ الْأَخْذَ كَمَا فِي الْمُحِيطِ، وَلَوْ أَكَلَ مَنْ فِي عِيَالِهِ نَاوِيًا لِلزَّكَاةِ أَوْ الْفِطْرَةِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (أَوْ تَكْفِينِ مَيِّتٍ) لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ (أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ) أَيْ الْمَيِّتِ الْفَقِيرِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ بِخِلَافِ دَيْنِ الْحَيِّ بِأَمْرِهِ إنْ كَانَ فَقِيرًا كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَى الْغَرِيمِ فَيَكُونُ الْقَابِضُ كَالْوَكِيلِ فِي قَبْضِ الصَّدَقَةِ (أَوْ ثَمَنِ قِنٍّ يُعْتَقُ) أَيْ لَا يُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ.
(وَلَا) تُدْفَعُ (إلَى ذِمِّيٍّ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِلْمُسْلِمِينَ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَلْزَمُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ وَلَئِنْ كَانَ خَبَرًا وَاحِدًا فَالْعَامُّ خُصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيُّ الْفَقِيرُ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا حُقِّقَ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَا لَا يُصْرَفُ إلَى الْمُرْتَدِّ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصْرَفُ إلَى مَنْ لَا يُكَفَّرُ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
وَقَالَ زُفَرُ الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ (وَصَحَّ غَيْرُهَا) مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ أَيْ غَيْرُ الزَّكَاةِ مِنْ الْفِطْرَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَالتَّطَوُّعِ إلَى الذِّمِّيِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ قَالَ: وَغَيْرُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُدْفَعَانِ إلَيْهِ أَيْضًا.
تَدَبَّرْ.
(وَلَا) تُدْفَعُ (إلَى غَنِيٍّ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنْ الْفَيْءِ (يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النُّقُودِ أَوْ السَّوَائِمِ أَوْ الْعُرُوضِ وَهُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَالدَّيْنِ فِي النُّقُودِ وَالِاحْتِيَاجِ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ فِي غَيْرِهَا بِلَا اشْتِرَاطِ النَّمَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ مُكَرَّرٌ يُحْسَبُ أَحَدُهُمَا مِنْ النِّصَابِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ دَارَانِ يَسْكُنُ فِي إحْدَاهُمَا وَلَا يَسْكُنُ فِي الْأُخْرَى تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الثَّانِيَةِ سَوَاءٌ يُؤَجِّرُهَا أَوْ لَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ يَصْرِفُ أُجْرَتَهَا إلَى قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ لَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا كَمَا فِي الْعِنَايَةِ وَابْنِ الْمَلِكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابَ سَائِمَةٍ كَخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ لَا كَمَا فِي الْبَحْرِ وَالْمِنَحِ لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْعِنَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ إلَى آخِرِهِ مُفِيدٌ تَقْرِيرَ النِّصَابِ بِالْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ السَّوَائِمِ لِمَا أَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَ نِصَابُهَا إلَّا مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَقَدْ قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ سَائِمَةٌ قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ.
وَفِي الْجَوْهَرَةِ الْغَنِيُّ هُوَ مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ النَّقْدَيْنِ أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ: الْفَقِيرُ مَنْ لَهُ دُونَ النِّصَابِ أَيْ غَيْرَ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا قَدْرُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتُهَا وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ نِصَابُ النَّقْدَيْنِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ بَلَغَ نِصَابًا أَيْ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَمَا فِي نَظْمِ الْوَهْبَانِيَّةِ وَشَرْحِهِ لَهُ وَفِي شَرْحِهِ لِابْنِ الشِّحْنَةِ.
وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ.
قِيلَ: وَمَا الْغَنِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ»
وَالْعَجَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْبَحْرِ ذَكَرَ فِي الْأَشْبَاهِ خِلَافَهُ فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَفِي الْمُحِيطِ الْغِنَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ غِنًى يُوجِبُ الزَّكَاةَ وَهُوَ مَنْ مَلَكَ نِصَابَ حَوْلِيٍّ نَامٍ وَغِنًى يُحَرِّمُ الصَّدَقَةَ وَيُوجِبُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ مَنْ مَلَكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ نِصَابٍ وَغِنًى يُحَرِّمُ السُّؤَالَ دُونَ الصَّدَقَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَمَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ.
(وَعَبْدِهِ) أَيْ الْغَنِيَّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ وَكَذَا لِلْمُدَبَّرِ وَأَمِّ الْوَلَدِ وَالْمُرَادُ بِالْعَبْدِ الْغَيْرُ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَا فِي يَدِهِ وَرَقَبَتِهِ، وَلَوْ كَانَ جَازَ دَفْعُهَا عِنْدَ الْإِمَامِ خِلَافًا لَهُمَا (وَطِفْلِهِ)؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِغَنَاءِ أَبِيهِ عُرْفًا وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي الْإِضَافَةِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الصَّرْفِ إلَى طِفْلِ الْفَقِيرِ (بِخِلَافِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ) وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِغَنَائِهِ.
(وَامْرَأَتِهِ إنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ) فَيَجُوزُ الدَّفْعُ لَهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى امْرَأَتِهِ الْغَنِيَّ كَابْنِهِ.
(وَلَا) تُدْفَعُ (إلَى هَاشِمِيٍّ مِنْ آلِ عَلِيٍّ أَوْ عَبَّاسٍ أَوْ جَعْفَرٍ أَوْ عَقِيلٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (أَوْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا آلِ مُحَمَّدٍ وَالْعَبَّاسِ وَالْحَارِثِ ابْنَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ أَوْلَادِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ»، وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِهَؤُلَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَذُرِّيَّةِ أَبِي لَهَبٍ كَمَا فِي الْجَوْهَرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَرَوَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ الدَّفْعُ لِبَنِي هَاشِمٍ فِي زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي عِوَضِهَا خُمُسَ الْخُمُسِ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ الْهَاشِمِيَّ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى هَاشِمِيٍّ مِثْلِهِ (قِيلَ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ) يَعْنِي اخْتَلَفُوا فِيمَا يُمْنَعُ قَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ كَالزَّكَاةِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَأَمَّا التَّطَوُّعَاتُ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَيْهِمْ.
وَفِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْعَتَّابِيَّةِ أَمَّا جَوَازُ النَّفْلِ فَبِالْإِجْمَاعِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمِعْرَاجِ وَاخْتَارَهُ فِي الْمُحِيطِ مُقْتَصِرًا وَعَزَاهُ إلَى النَّوَادِرِ وَمَشَى عَلَيْهِ الْأَقْطَعُ وَاخْتَارَهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَكَانَ هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِ لَكِنْ أَثْبَتَ الشَّارِحُ الزَّيْلَعِيُّ الْخِلَافَ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِ الْحُرْمَةِ وَقَوَّاهُ الْمُحَقِّقُ فِي الْفَتْحِ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لِإِطْلَاقِهِ وَلِهَذَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ وَعَنْ الْإِمَامِ لَا بَأْسَ فِي صَرْفِ الْكُلِّ إلَيْهِمْ.
وَعَنْهُ جَوَازُ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ وَفِي الْآثَارِ وَعَنْ الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ وَبِالْجَوَازِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَخْصُوصَةٌ بِزَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَوَّى صَاحِبُ الْكَافِي بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالْوَقْفِ وَقَيَّدَهُ فِي بَعْضِ الْمُعْتَبَرَاتِ بِمَا إذَا سَمَّاهُمْ فِي الْوَقْفِ يَجُوزُ أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّهِمْ فَلَا فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ (وَمَوَالِيهِمْ) أَيْ مُعْتَقُ بَنِي هَاشِمٍ (مِثْلُهُمْ) أَيْ مِثْلُ بَنِي هَاشِمٍ فِي عَدَمِ جَوَازِ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ».
(وَلَا يَدْفَعُ) الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ (إلَى أَصْلِهِ وَإِنْ عَلَا أَوْ فَرْعِهِ وَإِنْ سَفَلَ) سَوَاءٌ كَانَ بِالنِّكَاحِ أَوْ السِّفَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ عَلَى الْكَمَالِ (أَوْ) إلَى (زَوْجَتِهِ) بِالِاتِّفَاقِ.
(وَكَذَا لَا تَدْفَعُ) الْمَرْأَةُ (إلَى زَوْجِهَا) وَلَوْ مُعْتَدَّتُهُ مِنْ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ عِنْدَ الْإِمَامِ (خِلَافًا لَهُمَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ قَالَهُ لِامْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ التَّصَدُّقِ» قُلْنَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ.
(وَلَا إلَى عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ مُدَبَّرِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ)؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمْ لِلسَّيِّدِ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْجَوْهَرَةِ.
(وَكَذَا عَبْدِهِ الْمُعْتَقِ بَعْضِهِ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِوُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يُعْتَقْ لِتَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ الْإِمَامِ (خِلَافًا لَهُمَا) لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُمَا فَإِعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقُ كُلِّهِ فَيَصِيرُ حُرًّا فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِمُعْتِقِ الْبَعْضِ فَلَوْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَاخْتَارَ السَّاكِتُ الِاسْتِسْعَاءَ فَلِلْمُعْتِقِ الدَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ لِشَرِيكِهِ وَلَيْسَ لِلسَّاكِتِ الدَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَاخْتَارَ السَّاكِتُ تَضْمِينَهُ فَلِلسَّاكِتِ الدَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْمُعْتِقِ الدَّفْعُ إذَا اخْتَارَ اسْتِسْعَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ لِمَا أَنَّهُ بِالضَّمَانِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إعْتَاقِ الْبَاقِي أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَلَوْ دَفَعَ) الْمُزَكِّي (إلَى مَنْ ظَنَّهُ مَصْرِفًا فَبَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ) عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْإِمَامِ (أَوْ كَافِرٌ) الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ مَا كَانَ ذِمِّيًّا أَمَّا لَوْ ظَهَرَ حَرْبِيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْجَوْهَرَةِ وَالْبَحْرِ (أَوْ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ أَجْزَأَهُ) عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ)؛ لِأَنَّ خَطَأَهُ ظَهَرَ بِيَقِينٍ فَصَارَ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا يُعِيدُ صَلَاتَهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ أَدَّاهَا بِاجْتِهَادِهِ فَيَصِحُّ وَإِنْ أَخْطَأَ كَالصَّلَاةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَهَذَا إذَا تَحَرَّى أَمَّا إذَا شَكَّ فَلَمْ يَتَحَرَّ أَوْ تَحَرَّى فَظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ فَلَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ.
(وَلَوْ بَانَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِئُ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ خُرُوجًا صَحِيحًا وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ.
(وَنُدِبَ دَفْعُ) مِقْدَارِ (مَا يُغْنِي) الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ (عَنْ السُّؤَالِ يَوْمَهُ) أَيْ يَوْمَ الدَّفْعِ، وَلَوْ أَطْلَقَ لَكَانَ أَحْصَرَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صِيَانَتَهُ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ لَكِنْ قَيَّدَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ.
(وَكُرِهَ دَفْعُ نِصَابٍ أَوْ أَكْثَرَ)، وَلَوْ تَرَكَ أَوْ أَكْثَرَ لَكَانَ أَخْصَرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَتْ بِدُونِهِ الْكَرَاهَةُ (إلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مَدْيُونٍ) فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَدْرَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ وَزِيَادَةً دُونَ مِائَتَيْنِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ عِيَالٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَ قَدْرَ مَا لَوْ قَسَّمَ مَا دَفَعَ إلَيْهِ تُصِيبُ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصَابِ.
وَفِي الْفَتْحِ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ فِي كُلِّ فَقِيرٍ عَنْ عِيَالِهِ وَحَاجَةٍ أُخْرَى كَدُهْنِ وَثَوْبٍ وَكِرَاءِ مَنْزِلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا تَصَدَّقْتُمْ فَأَغْنُوهُمْ» وَلِهَذَا قَالُوا: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهِ فُلُوسًا فَفَرَّقَهَا فَقَدْ قَصَّرَ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ.
(وَ) كُرِهَ (نَقْلُهَا) أَيْ الزَّكَاةِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ بَلَدٍ (إلَى بَلَدٍ آخَرَ) غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ وَإِنْ كَانَ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ، وَالْمِلْكُ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَالْمُعْتَبَرُ مَكَانُ الْمِلْكِ لَا الْمَالِكِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ عَنْهُ مُحَمَّدٌ مَكَانَ الْمُؤَدِّي وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ (إلَّا) أَنْ يَنْقُلَهَا (إلَى قَرِيبِهِ) أَيْ الْمُزَكِّي فَلَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ قَالَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ لَا تُقْبَلُ صَدَقَتُهُ وَقَرَابَتُهُ مَحَاوِيجُ حَتَّى يَبْدَأَ بِهِمْ قَالُوا: الْأَفْضَلُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى أَخَوَاتِهِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ إلَى أَعْمَامِهِ ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ نَازِلِينَ ثُمَّ إلَى أَخْوَالِهِ ثُمَّ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ثُمَّ إلَى جِيرَانِهِ ثُمَّ إلَى أَهْلِ سَكَنِهِ ثُمَّ إلَى أَهْلِ مِصْرِهِ وَالْمُرَادُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْدَ ذِكْرِ أَخْوَالِهِ ذُو رَحِمٍ أَبْعَدَ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ (أَوْ) شَخْصٍ (أَحْوَجَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ) لِدَفْعِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فُقَرَاءُ غَيْرِ الْبَلْدَةِ أَوْرَعَ أَوْ أَنْفَعَ بِتَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ وَتَعَلُّمِهَا وَإِلَّا فَلَا يُكْرَهُ، وَلَوْ مَكَثَ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ سِنِينَ بِأَمَانٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ يُفْتَى بِأَدَائِهَا إلَى مَنْ يَسْكُنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ وَجَدَ مَصْرِفًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
(وَلَا يَسْأَلُ مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ) مِنْ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ وَيَجُوزُ مَعَهُ سُؤَالُ الْجُبَّةِ وَالْكِسَاءِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ.

.بَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ:

مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى شَرْطِهِ كَمَا فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى سَبَبِهِ كَمَا فِي حَجِّ الْبَيْتِ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِلزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الصَّوْمِ جَائِزٌ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمُضَافُ لَا الْمُضَافُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ أَرْفَعُ دَرَجَةً مِنْهَا لِثُبُوتِهَا بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ عَقِيبَ الصَّوْمِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ إذْ هِيَ بَعْدُ الصَّوْمِ طَبْعًا كَمَا فِي الْجَوْهَرَةِ وَالْفِطْرُ لَفْظٌ إسْلَامِيٌّ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ كَأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ الْخِلْقَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى كَمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْفِطْرِ بِمَعْنَى الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيكُ هَذَا الْيَوْمِ وَالصَّدَقَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِ (هِيَ وَاجِبَةٌ) وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي الْعُمْرِ كَالزَّكَاةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْبَحْرِ مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَلَا يَضِيقُ وَقِيلَ مُضَيَّقًا فِي يَوْمِ الْفِطْرِ عَيْنًا أَرَادَ بِالْوُجُوبِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهُ قَالُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: قَبُولُ الصَّوْمِ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ فَرِيضَةٌ (عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ) فَتَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بَلْ عَلَى سَيِّدِهِ لِأَجْلِهِ وَلَا عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ (الْمَالِكِ لِنِصَابٍ فَاضِلٍ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ) فَيُعْتَبَرُ مَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ.
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) النِّصَابُ (نَامِيًا) وَكَدَارٍ لَا تَكُونُ لِلسُّكْنَى وَلَا لِلتِّجَارَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ وَاحِدَةٌ يَسْكُنُهَا وَفَضَلَتْ عَنْ سُكْنَاهُ يُعْتَبَرُ الْفَاضِلُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا وَكَذَا مَا فَضَلَ عَنْ الثَّلَاثَةِ مِنْ الثِّيَابِ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَعَنْ فَرَسَيْنِ لِلْغَازِي وَفَرَسٍ وَحِمَارٍ لِلْغَيْرِ وَعَنْ نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مُصَنَّفٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ لِأَهْلِهَا وَاثْنَيْنِ مِنْ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَفِي الْخُلَاصَةِ لَوْ كَانَتْ لَهُ كُتُبٌ إنْ كَانَتْ كُتُبَ الطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَالْأَدَبِ يُعْتَبَرُ نِصَابًا وَلَا يُخَالِفُ مَا فِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فَمَشَى فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى رِوَايَةٍ.
وَفِي بَابِ الْفِطْرِ عَلَى أُخْرَى، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ دُورٌ وَحَوَانِيتُ لِلْغَلَّةِ وَهِيَ لَا تَكْفِي عِيَالَهُ فَهُوَ مِنْ الْفُقَرَاءِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَعَلَى هَذَا الْكَرْمُ وَالْأَرْضُ وَلَا يُعْتَبَرُ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنْ قُوتِ شَهْرٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ (وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا النِّصَابِ (تَحْرُمُ) عَلَى مَالِكِهِ (الصَّدَقَةُ) أَيْ الزَّكَاةُ وَالْعُشْرُ وَالْفِطْرُ وَغَيْرُهَا (وَتَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ (عَنْ نَفْسِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِوَاجِبَةٍ وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ الْمَانِعَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الرَّأْسُ (وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ الْفَقِيرِ) فَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ رَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ آبَاءٌ فَعَلَى كُلٍّ فِطْرَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْآبَاءِ مُوسِرًا دُونَ الْبَاقِينَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ تَامَّةٌ عِنْدَهُمَا وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِطْرَةُ وَلَدِ وَلَدِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَعَبْدِهِ لِلْخِدْمَةِ، وَلَوْ) كَانَ الْعَبْدُ (كَافِرًا) مَأْذُونًا أَوْ جَانِيًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا لَوْ كَافِرًا.
(وَكَذَا مُدَبَّرُهُ وَأَمُّ وَلَدِهِ) وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ (لَا عَنْ زَوْجَتِهِ) عَطْفٌ عَلَى نَفْسِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
(وَوَلَدِهِ الْكَبِيرِ)، وَلَوْ فِي عِيَالِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَكِنْ لَوْ أَدَّى لَهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا جَازَ وَلَا يُؤَدِّي لِغَيْرِ عِيَالِهِ إلَّا بِأَمْرِهِ كَمَا فِي الْمُحِيطِ (وَلَا عَنْ طِفْلِهِ الْغَنِيِّ) لِانْعِدَامِ الْمُؤْنَةِ.
(بَلْ) تَجِبُ مِنْ (مَالِ الطِّفْلِ) عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَمَالِيكُهُ.
وَفِي إطْلَاقِهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ أَدَاءِ وَصِيِّ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِمَا أَوْ وَصِيِّ الْقَاضِي، وَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهَا الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ عَنْهُ وَجَبَ الْأَدَاءُ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
(وَالْمَجْنُونُ كَالطِّفْلِ) فَتَجِبُ عَلَى الْأَبِ إنْ كَانَ فَقِيرًا وَفِي مَالِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا مِنْ مَالِهِ وَعَنْهُ أَنَّ الْكَبِيرَ الْمَجْنُونَ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا فَفِطْرَتُهُ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ مُفِيقًا ثُمَّ جُنَّ لَا.
(وَلَا عَنْ مُكَاتَبِهِ)، وَلَوْ عَجَزَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ.
(وَلَا عَنْ عَبِيدِهِ لِلتِّجَارَةِ) لِلثَّنْيِ إذْ هِيَ تَجِبُ عَلَيْهِ لَا عَنْ قِنٍّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَدُّوا عَمَّنْ يُمَوَّنُونَ» إذْ الْأَمْرُ يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُخَاطَبِ فَتَجِبُ فِطْرَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى وَتَجِبُ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ أَيْضًا فَلَزِمَ الثَّنْيُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يَتَحَمَّلُهُ مَوْلَاهُ فَلَا ثَنْيَ عِنْدَهُ.
(وَلَا عَنْ عَبْدٍ آبِقٍ) لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ (إلَّا بَعْدَ عَوْدِهِ) لِعَوْدِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ.
(وَلَا عَنْ عَبْدٍ أَوْ عَبِيدٍ) مُشْتَرَكَةٍ (بَيْنَ اثْنَيْنِ) عِنْدَ الْإِمَامِ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَقَالَ الْبَاقَانِيُّ وَلَوْ اكْتَفَى بِالثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى لَكَانَ أَوْلَى لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ أَفْرَدَ بِالذِّكْرِ تَفْصِيلًا لِمَحَلِّ الْخِلَافِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُؤَلِّفِينَ فَفِيهِ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ يُخْرِجُ مِنْهُمَا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَدْرِ الْمِلْكِ مِنْ الْأَنْصِبَاءِ.
(وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ عَلَى كُلِّ) وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ (فِطْرَةٌ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الرُّءُوسِ) أَيْ رُءُوسِ الْعَبِيدِ (دُونَ الْأَشْقَاصِ) يَعْنِي لَوْ كَانَ لَهُمَا عَبْدٌ وَاحِدٌ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ اثْنَيْنِ تَجِبُ عَلَى كُلٍّ صَدَقَةُ عَبْدٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَكَذَا وَلَا يَجِبُ عَنْ الثَّالِثِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً تَجِبُ عَلَى كُلٍّ صَدَقَةُ عَبْدَيْنِ وَعَلَى هَذَا وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُمَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الرَّقِيقِ وَالْإِمَامُ لَا يَرَاهَا وَقِيلَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي الْكَافِي.
(وَلَوْ بِيعَ عَبْدٌ بِخِيَارٍ) وَالْمُرَادُ بِالْخِيَارِ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ رُدَّ بِخِيَارِ عَيْبٍ أَوْ رُؤْيَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِطْرَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ اتِّفَاقًا وَإِنْ رُدَّ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي (فَعَلَى مَنْ يَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ لَهُ) أَيْ يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ صَدَقَةِ فِطْرِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا وَإِذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ الْعَبْدُ لَهُ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ كَالنَّفَقَةِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَإِنْ قَبَضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ لَمْ تَجِبْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا.
(وَتَجِبُ) الْفِطْرَةُ (بِطُلُوعِ) أَيْ بَعْدَ طُلُوعِ (فَجْرِ يَوْمِ الْفِطْرِ) أَيْ وُجُوبُ الْفِطْرَةِ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ تَعَلُّقَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ لَا تَعَلُّقَهُ بِالسَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ شَرْطٌ وَالرَّأْسُ سَبَبٌ وَالْمَعْنَى وَقْتُ الْوُجُوبِ ثَبَتَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.
(فَمَنْ مَاتَ قَبْلُ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ) فِطْرَتُهُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ.
(وَصَحَّ تَقْدِيمُهَا) عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، وَالْوَقْتُ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَمَا فِي الزَّكَاةِ (بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ مُدَّةٍ وَمُدَّةٍ)، وَلَوْ عَشْرُ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَقِيلَ: سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْمُضْمَرَاتِ وَقِيلَ جَازَ أَنْ تُؤَدَّى فِي رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَقِيلَ فِي نِصْفِهِ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ وَقِيلَ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ وَقَالَ الْحَسَنُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا كَالْأُضْحِيَّةِ.
(وَنُدِبَ إخْرَاجُهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ) بَعْدَ الطُّلُوعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَقْبُولَةٌ وَإِنْ أَدَّاهَا بَعْدَهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» وَيَجِبُ دَفْعُ فِطْرَةِ كُلِّ شَخْصٍ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ فَرَّقَهَا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ.
وَقَالَ فِي الْمِنَحِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَدَقَةَ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إلَى وَاحِدٍ وَيَجُوزُ دَفْعُ مَا يَجِبُ عَلَى جَمَاعَةٍ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ شُرِطَ عَدَدُ الْوُصُولِ إلَى النِّصَابِ.
(وَلَا تَسْقُطُ) صَدَقَةُ الْفِطْرِ (بِالتَّأْخِيرِ) وَلَا يُكْرَهُ التَّأْخِيرُ وَإِنْ طَالَ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا لَكِنْ فِيهِ إسَاءَةٌ وَعَنْ الْحَسَنِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ يَوْمِ الْفِطْرِ وَعَنْهُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ.

.مقدار صدقة الفطر:

(وَهِيَ) أَيْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ (نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقِهِ أَوْ سَوِيقِهِ) وَالْمُرَادُ مِنْهُمَا مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبُرِّ أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ أَوْ سَوِيقُهُ فَكَالشَّعِيرِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ (أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَشَعِيرٍ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكُلِّ صَاعٌ (وَالزَّبِيبُ كَالْبُرِّ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذْ كُلُّهُ يُؤْكَلُ كَبُرٍّ (وَعِنْدَهُمَا كَالشَّعِيرِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ الْإِمَامِ)؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّمْرَ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّفَكُّهُ قِيلَ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ (وَالصَّاعُ) عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ (مَا يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ) كُلُّ رِطْلٍ عِشْرُونَ إسْتَارًا وَهُوَ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ فَيَكُونَ أَلْفًا وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَكَانَ ذَلِكَ الصَّاعُ قَدْ فُقِدَ فَأَخْرَجَهُ الْحَجَّاجُ وَالْعِرَاقِيُّ عَلَمُ صَاعٍ كَمَا فِي النِّهَايَةِ (مِنْ نَحْوِ عَدَسٍ أَوْ مَجٍّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَاشِّ وَإِنَّمَا قَدَّرُوهُ بِهِمَا لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَبَّاتِهِمَا تَخَلْخُلًا وَاكْتِنَازًا وَأَمَّا التَّفَاوُتُ صِغَرًا وَعِظَمًا فَلَا دَخْلَ لَهُ فِي التَّقْدِيرِ وَزْنًا كَمَا فِي الْإِصْلَاحِ.
(وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ) بِرِطْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ إسْتَارًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(وَلَوْ دَفَعَ مَنَوَيْ بُرٍّ صَحَّ) يَعْنِي يَجُوزُ إعْطَاءُ نِصْفِ صَاعٍ وَزْنًا؛ لِأَنَّ الصَّاعَ مُقَدَّرٌ بِالْوَزْنِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْإِمَامِ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) فِي رِوَايَةٍ رَوَاهَا ابْنُ رُسْتُمَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالصَّاعِ هُوَ اسْمُ الْمَكِيلِ كَمَا فِي الْإِصْلَاحِ.
(وَدَفَعَ الْبُرَّ فِي مَكَان تُشْتَرَى بِهِ) أَيْ بِالْبُرِّ (الْأَشْيَاءُ فِيهِ أَفْضَلُ)؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْخِلَافِ إذْ فِي الدَّقِيقِ وَالْقِيمَةِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ.
(وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الدَّرَاهِمُ أَفْضَلُ) مِنْ الدَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ وَأَعْجَلُ بِهَا وَالدَّقِيقُ أَفْضَلُ مِنْ الْبُرِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ إنْ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّدَّةِ فَالْأَدَاءُ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ دَقِيقِهِ أَفْضَلُ وَفِي زَمَنِ السَّعَةِ الدَّرَاهِمُ أَفْضَلُ.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ أَفْضَلُ لَكِنْ لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُمَا نَظَرَا لِمَا هُوَ أَكْثَرُ نَفْعًا وَأَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.

.كِتَابُ الصَّوْمِ:

قَدَّمَهُ عَلَى كِتَابِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَسِيطِ مِنْ الْمُرَكَّبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالْبَسِيطُ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ هَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِفَوَائِدَ أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا لِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا عَيْنُ الْآخَرِ سُكُونُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَكَسْرُ سَوْرَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ مِنْ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا وَلِهَذَا قِيلَ إذَا جَاعَتْ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا وَمِنْهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لِذَوْقِ أَلَمِ الْجُوعِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَيُسَارِعُ إلَى رَحْمَتِهِمْ وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ فَيَنَالُ بِذَلِكَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ وَمِنْهَا كَوْنُهُ مُوَافَقَةَ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانَا وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْفَتْحِ لَكِنْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَقِّ الْغَنِيِّ فَقَطْ أَمَّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ فَلَا، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ لَكَانَ أَوْلَى.
تَأَمَّلْ وَالصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا عَنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ جُعِلَ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَمِنْهُ صَامَ الْفَرَسُ إذَا لَمْ يَعْتَلِفْ قَالَ النَّابِغَةُ خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا أَيْ مُمْسِكَةٌ عَنْ الْعَلَفِ أَوْ غَيْرُ مُمْسِكَةٍ وَفِي الشَّرِيعَةِ (هُوَ تَرْكُ الْأَكْلِ) وَمَا فِي حُكْمِهِ فَلَا يَرِدُ مَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ فَإِنَّهُ مُفْطِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ إدْخَالُ شَيْءٍ بَطْنَهُ مَأْكُولًا أَوْ لَا فَمَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ لِمَا أَنَّ بَيْنَ الدِّمَاغِ وَالْجَوْفِ مَنْفَذٌ (وَالشُّرْبِ) بِالْحَرَكَاتِ (وَالْوَطْءِ) أَيْ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ قَصْدًا فَلَا يَشْكُلُ بِمَا فُعِلَ نِسْيَانًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ شَرْعًا وَالْمُرَادُ بِالْوَطْءِ الْوَطْءُ الْكَامِلُ فَلَا يُشْكِلُ بِوَاطِئِ مَيْتَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ بِلَا إنْزَالٍ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْأَعَمِّ جَائِزٌ، وَلَوْ قَالَ تَرْكُ الْمُفْطِرَاتِ لَزِمَ الدَّوْرُ إذْ هِيَ مُفْسِدَاتُ الصَّوْمِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَكَذَا لَا يُشْكِلُ بِالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ عَنْهَا، لَكِنْ لَوْ قَالَ: إمْسَاكٌ عَنْ إدْخَالِ شَيْءٍ عَمْدًا فِي بَطْنِهِ أَوْ مَا لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ لَكَانَ أَوْضَحَ وَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ رُكْنُهُ (مِنْ الْفَجْرِ) أَيْ أَوَّلِ زَمَانِ الصُّبْحِ الصَّادِقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقِيلَ انْتِشَارُهُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحْوَطُ (إلَى الْغُرُوبِ) الْحِسِّيِّ بِحَيْثُ تَظْهَرُ الظُّلْمَةُ فِي جِهَةِ الشَّرْقِ لَا الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ إلَّا لِلْأَفْرَادِ (مَعَ نِيَّةٍ مِنْ أَهْلِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ نِيَّةِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلصَّوْمِ كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَنَحْوِهِمَا وَهِيَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ لِيَتَمَيَّزَ بِهَا الْعِبَادَةُ عَنْ الْعَادَةِ، وَأَرَادَ بِمَعِيَّةِ النِّيَّةِ مَعِيَّةَ الْوُجُودِ لَا مَعِيَّةَ الِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ (وَهُوَ) أَيْ الْأَهْلُ (مُسْلِمٌ) احْتِرَازٌ عَنْ الْكَافِرِ (عَاقِلٌ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمَجْنُونِ (طَاهِرٌ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ) بِالِانْقِطَاعِ فَيَصِحُّ صَوْمُ الْجُنُبِ لَكِنْ قَالَ فِي الْمِنَحِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَقْلُ وَالْإِفَاقَةُ لِلصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ فِي النَّهَارِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِعَدَمِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يُتَصَوَّرُ لَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصِّحَّةِ لِصِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَبِهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْفَتْحِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي الشُّرُوطِ، الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ أَوْ الْكَوْنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِيَّةِ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى.

.صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ:

(وَصَوْمُ) شَهْرِ (رَمَضَانَ) فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ عَلَمٌ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ رَبِيعِ الْأَوَّلِ شَهْرُ رَبِيعِ الْآخَرِ وَرَمَضَانُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَذْفِ لِلتَّخْفِيفِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَمَضَانُ عَلَمًا لَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِمَنْزِلَةِ إنْسَانُ زَيْدٍ وَلَا يَخْفَى قُبْحُهُ وَلِهَذَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَلَمْ يُسْمَعْ شَهْرُ رَجَبَ وَشَهْرُ شَعْبَانَ عَلَى الْإِضَافَةِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ وَالسِّرُّ فِي قُبْحِهِ عَدَمُ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ وَهِيَ جَائِزَةٌ.
تَدَبَّرْ، وَهِيَ مُشْتَقٌّ مِنْ رَمَضَ إذَا احْتَرَقَ؛ لِأَنَّ الذُّنُوبَ تَحْتَرِقُ فِيهِ (فَرِيضَةٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَلِلْإِجْمَاعِ كَمَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّجَهَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ قَلَمُ التَّكْلِيفِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَيَكُونَ دَلِيلًا ظَنِّيًّا قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ الْفَرْضِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ تَدَارَكَهُ بِقَوْلِهِ وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ.
تَأَمَّلْ (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ) فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْمُسْتَغْرِقِ جَمِيعَ الشَّهْرِ بِالِاتِّفَاقِ اعْلَمْ أَنَّ شَرْطَهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ شَرْطُ: وُجُوبِهِ كَالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَشَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ كَالصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ آنِفًا وَسَبَبُ وُجُوبِهِ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ مُتَفَرِّقَةٌ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ بَلْ أَشَدُّ لِتَخَلُّلِ زَمَانٍ لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ أَصْلًا وَهُوَ اللَّيْلُ وَلَا تَنَافِي بَيْنَ جَمْعِ السَّبَبَيْنِ فَشُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ سَبَبٌ لِكُلِّهِ وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِهِ وَدُخُولِهِ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ وَحُكْمُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ وَقِيلَ ثَوَابُهُ إنْ كَانَ صَوْمًا لَازِمًا، وَإِلَّا فَالثَّانِي كَمَا فِي الْفَتْحِ.
وَقَالَ الْمَوْلَى ابْنُ كَمَالِ الْوَزِيرِ إنَّ السَّبَبَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَا كُلُّهُ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَجِبَ صَوْمُ كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ تَمَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا الْجُزْءُ الْمُطْلَقُ وَإِلَّا لَوَجَبَ صَوْمُ يَوْمٍ بَلَغَ فِيهِ الصَّبِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَأَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ سَبَبًا بِاعْتِبَارِ جُزْئِهِ الْأَوَّلِ أَوْ بِاعْتِبَارِ جُزْئِهِ الْمُطْلَقِ إذْ يَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَجِبَ صَوْمُ مَا بَقِيَ عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَيَلْزَمُ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَجِبَ صَوْمُ الْكُلِّ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ انْتَهَى أَقُولُ فِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لَا مَحَالَةَ لَكِنَّ عَدَمَ وُجُوبِ صَوْمِ الْكُلِّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِعَدَمِ وِجْدَانِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبُلُوغُ لَا لِعَدَمِ وِجْدَانِ السَّبَبِ فَإِذَا بَلَغَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَجَبَ صَوْمُ مَا بَقِيَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَجِبُ صَوْمُ مَا مَضَى لِعَدَمِهِ تَدَبَّرْ (أَدَاءً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (وَقَضَاءً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ.

.صَوْمُ الْمَنْذُورِ:

(وَصَوْمُ الْمَنْذُورِ) مُعَيَّنًا كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مَثَلًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا مَثَلًا وَسَبَبُهُ النَّذْرُ وَلِذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَصَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ عَنْهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَيَلْغُو التَّعْيِينُ (وَالْكَفَّارَةُ) لِظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ يَمِينٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ فِدْيَةِ الْأَذَى فِي الْإِحْرَامِ، وَالسَّبَبُ الْحِنْثُ وَالْقَتْلُ (وَاجِبٌ) لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْ ثُبُوتِهِ عَمَلًا لَا عِلْمًا وَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ كَمَا فِي الْإِصْلَاحِ لَكِنْ فِي الْفَتْحِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا فَرْضٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِهَا وَنَصَّ فِي الْبَدَائِعِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْمَنْذُورِ.
وَفِي الْمَوَاهِبِ وَفَرْضُ صَوْمَ الْكَفَّارَاتِ وَكَذَا صَوْمُ الْمَنْذُورِ فِي الْأَظْهَرِ.
وَفِي التَّبْيِينِ الْكَفَّارَةُ فَرْضٌ وَالنَّذْرُ وَاجِبٌ وَقَالَ يَعْقُوبُ بَاشَا، وَقَوْلُ ابْنِ مَالِكٍ فِي شَرْحِهِ، وَلَوْ قَالَ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ فَرْضٌ وَصَوْمُ الْكَفَّارَاتِ وَاجِبٌ لَكَانَ أَوْلَى لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صَوْمِ النَّذْرِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ فِي الْوَاجِبِيَّةِ أَوْ الْفَرْضِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى.
عَلَى أَنَّهَا يُخَالِفُ مَا فِي شَرْحِهِ لِلْمَجْمَعِ تَدَبَّرْ.
هَذَا بَحْثٌ طَوِيلٌ فَلْيُطْلَبْ مِنْ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا (وَغَيْرُ ذَلِكَ نَفْلٌ) يَعْنِي الزَّائِدَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ السُّنَّةِ كَصَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ التَّاسِعِ وَالْمَنْدُوبُ كَصَوْمِ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا الْأَيَّامَ الْبِيضَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا وَهُوَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ مُنْفَرِدًا وَنَحْوَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.صَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ:

(وَصَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَرَامٌ) لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
(وَيَجُوزُ) أَيْ يَصِحُّ (أَدَاءُ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ بِنِيَّةٍ) وَاقِعَةٍ (مِنْ اللَّيْلِ وَإِلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ) وَالنَّهَارُ الشَّرْعِيُّ مِنْ الصُّبْحِ إلَى الْمَغْرِبِ فَمُنْتَصَفُهُ الضَّحْوَةُ الْكُبْرَى كَمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ لَكِنَّ اللُّغَوِيَّ كَذَلِكَ كَمَا فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ، وَلَوْ قَالَ فِي اللَّيْلِ وَالْيَوْمِ قَبْلَ نِصْفِهِ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُهَا فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ لَا ابْتِدَاؤُهَا مِنْ أَحَدِهِمَا وَانْتِهَاؤُهَا فِي الْآخَرِ كَمَا فِي الْإِصْلَاحِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا بُدَّ مِنْ التَّبْيِيتِ (لَا عِنْدَهُ) أَيْ نِصْفَ النَّهَارِ (فِي الْأَصَحِّ) فَلَوْ نَوَى عِنْدَ الضَّحْوَةِ أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَنَا اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِقِيَامِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْوِيَ مُقَارِنًا لِلصُّبْحِ كَمَا فِي التُّحْفَةِ وَهَذَا خَاصٌّ بِالصَّوْمِ لِكَوْنِهِ رُكْنًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ فَلَا تَجُزْ بِنِيَّةٍ فِي أَكْثَرِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اقْتِرَانِهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ مِنْ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ بِالنِّيَّةِ وَجَوَازِهَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ بِهَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَبِعَدَمِ جَوَازِهَا إلَّا مِنْ اللَّيْلِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ.
(وَ) يَصِحُّ أَدَاؤُهَا (بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ) وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَاتِ الصَّوْمِ دُونَ الصِّفَةِ كَنَوَيْتُ الصَّوْمَ فَإِنَّ مُرَادَهُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الصَّوْمَ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا نِيَّةٌ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ، وَلَوْ قَالَ بِنِيَّةِ الْمُطْلَقِ لَكَانَ أَوْلَى وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا قَالَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُهُ بِنِيَّةِ نَفْلٍ وَيَصِحُّ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ بِإِعَادَةِ النِّيَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْإِطْلَاقِ فَإِضَافَتُهَا عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي.
تَدَبَّرْ وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِيَّةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ.
(وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ رَمَضَانَ إلَّا بِنِيَّةٍ عَلَى التَّعْيِينِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَلَنَا أَمَّا فِي النِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ؛ فَلِأَنَّ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِلْفَرْضِ لَا يَسَعُ غَيْرَهُ وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُتَعَيِّنِ تَعَيُّنٌ كَمَا نَادَى زَيْدًا الْمُنْفَرِدَ فِي الدَّارِ بِيَا إنْسَانُ فَإِنَّ فِيهِ تَعْيِينًا لَهُ وَأَمَّا فِي نِيَّةِ النَّفْلِ؛ فَلِأَنَّ وَصْفَهُ بِالنَّفْلِ خَطَأٌ فَيَبْطُلُ وَيَبْقَى الْإِطْلَاقُ وَهُوَ تَعْيِينٌ، وَلَوْ صَامَ مُقِيمٌ عَلَى غَيْرِ رَمَضَانَ لِجَهْلِهِ بِهِ فَوَافَقَهُ فَهُوَ عَنْهُ.
(وَ) يُؤَدَّى (صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ لِلصَّحِيحِ الْمُقِيمِ) يَعْنِي يَصِحُّ أَدَاءُ رَمَضَانَ إذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عَلَيْهِ نَحْوِ كَفَّارَةِ قَتْلِ غَيْرِ الْعَمْدِ أَوْ ظِهَارٍ (لَا) يُؤَدَّى (النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ) بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ (بَلْ) يَقَعُ الْأَدَاءُ (عَمَّا نَوَاهُ) كَمَا أَنَّ النَّفَلَ لَا يُؤَدَّى بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ بَلْ يَقَعُ عَمَّا نَوَى هَذَا إنْ نَوَى بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بَعْدَمَا أَصْبَحَ فِي يَوْمِ التَّعْيِينِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ يَكُونُ عَنْ نَذْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّعْيِينَ إنَّمَا جُعِلَ بِوِلَايَةِ النَّاذِرِ، وَلَهُ حَقُّ إبْطَالِ صَلَاحِيَّةِ مَا لَهُ وَهُوَ النَّفَلُ لَا مَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَنَحْوُهُ وَرَمَضَانُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ.
(وَلَوْ نَوَى الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ فِيهِ) أَيْ فِي رَمَضَانَ (وَاجِبًا آخَرَ) كَالْقَضَاءِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ (وَقَعَ) صَوْمُهُ (عَمَّا نَوَى) هَذِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ الْإِمَامِ لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولَيْهِمَا: وَوَجْهُهُ أَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِ تَتَعَلَّقُ بِعَجْزِ بَاطِنٍ قَامَ السَّفَرُ الظَّاهِرُ مَقَامَهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ.
وَفِي الْإِيضَاحِ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا وَأَكْثَرِ مَشَايِخِ بُخَارَى وَبِهِ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ لَا بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ فَكَانَ كَالْمُسَافِرِ فِي تَعَلُّقِ الرُّخْصَةِ لِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ (وَعِنْدَهُمَا) يَقَعُ (عَنْ رَمَضَانَ)؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَيْ لَا تَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا الْتَحَقَ بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَوَجْهُ قَوْلِ الْإِمَامِ أَنَّهُمَا شَغَلَا الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ وَتَخْيِيرِهِمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَيَّامِ الْأُخَرِ، وَلَوْ أَطْلَقَ الْمُسَافِرُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ كَالْمَرِيضِ.
(وَالنَّفَلَ كُلَّهُ) وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ عَدَمُ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ وَشُرِطَ لِقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ وَالنَّفَلِ الْفَاسِدِ أَنْ يُبَيِّتَ.
تَدَبَّرْ (يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ) مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا خِلَافًا لِمَالِكٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «بَعْدَ مَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذَنْ لَصَائِمٌ» وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ وَيَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ» وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بَعْدَهُ أَيْضًا وَيَصِيرُ صَائِمًا حِينَ نَوَى إذْ هُوَ مُنْجِزٌ عِنْدَهُ لَكِنْ مِنْ شَرْطِهِ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ.
(وَالْقَضَاءُ) أَيْ قَضَاءُ رَمَضَانَ (وَالنَّذْرُ الْمُطْلَقُ) غَيْرُ الْمُعَيَّنِ كَالنَّذْرِ لِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ شِبْهِهِ (وَالْكَفَّارَاتُ) أَيْ كَفَّارَةُ رَمَضَانَ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْقَتْلِ وَالْإِحْصَارِ وَالصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَمُتْعَةِ الْحَجِّ (لَا تَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ اللَّيْلِ) السَّابِقِ، وَلَوْ عِنْدَ الطُّلُوعِ بَلْ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالصَّوْمِ لَا تَقْدِيمُهَا، وَإِنَّمَا صَحَّ التَّقْدِيمُ لِلْعُسْرِ فَلَوْ نَوَى بَعْدَ الطُّلُوعِ كَانَ تَطَوُّعًا وَإِتْمَامُهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَا قَضَاءَ بِإِفْطَارِهِ، وَلَوْ نَوَى لَيْلًا بِأَنْ يَصُومَ غَدًا ثُمَّ عَزَمَ فِي اللَّيْلِ عَلَى الْفِطْرِ لَمْ يَصِرْ صَائِمًا ثُمَّ إذَا أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ رَمَضَانُ، وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى يَأْكُلَ، وَلَوْ قَالَ نَوَيْت صَوْمَ غَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ تُبْطِلُ اللَّفْظَ وَالنِّيَّةُ فِعْلُ الْقَلْبِ وَصَحَّحَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ.

.ما يثبت به رمضان:

(وَيَثْبُتُ) رَمَضَانُ أَيْ دُخُولُهُ وَابْتِدَاؤُهُ (بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ بَعْدَ شَعْبَانَ) أَيْ بِأَنْ يُعَدَّ شَعْبَانُ (ثَلَاثِينَ) يَوْمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَالْغَيْمُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الظُّهُورِ لِعِلَّةٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ لِقُرْبِهِ مِنْ الشَّمْسِ.
(وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الشَّكِّ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» الْحَدِيثَ.
وَمَا رَوَاهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا يُصَامُ الَّذِي شُكَّ فِيهِ إلَّا تَطَوُّعًا» لَا أَصْلَ لَهُ كَمَا فِي التَّبْيِينِ لَكِنْ فِي الْفَتْحِ خِلَافُهُ تَدَبَّرْ (إلَّا تَطَوُّعًا) أَيْ نَفْلًا بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي الْأَصَحِّ (وَهُوَ) أَيْ الصَّوْمُ (أَحَبُّ إنْ وَافَقَ) صَوْمُهُ مِنْ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ (صَوْمًا يَعْتَادُهُ) كَصَوْمِ يَوْمِ الْخَمِيسِ أَوْ الِاثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ آخِرِ شَهْرٍ، وَلَوْ صَامَ يَوْمَيْنِ كُرِهَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ يَصُومُ وَإِلَّا فَلَا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا يَعْتَادُهُ (فَيَصُومُ الْخَوَاصُّ) أَيْ الْعُلَمَاءُ أَوْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ نِيَّتَهُ وَهِيَ أَنْ يَقْصِدَ التَّطَوُّعَ بِنِيَّةِ الْمُطْلَقِ أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ بِلَا قَصْدِ رَمَضَانَ (وَيُفْطِرُ غَيْرُهُمْ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ) نَفْيًا لِتُهْمَةِ ارْتِكَابِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَفْتَى النَّاسَ يَوْمَ الشَّكِّ بِالْفِطْرِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ «اُصْحُوَا يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرِينَ مُتَلَوِّمِينَ» أَيْ غَيْرَ آكِلِينَ وَلَا صَائِمِينَ قِيلَ الْأَفْضَلُ الْفِطْرُ وَقِيلَ الصَّوْمُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمْ بِالْفِطْرِ أَمَّا فِي الصَّوْمِ فَقِيلَ يُكْرَهُ وَيَأْثَمُ وَقِيلَ لَا يَأْثَمُ.
(وَكُرِهَ صَوْمُهُ) أَيْ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ نَاوِيًا (عَنْ رَمَضَانَ) لِتَشَبُّهِهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ (أَوْ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ) لَكِنَّ الثَّانِيَ فِي الْكَرَاهَةِ دُونَ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ.
(وَكَذَا) يُكْرَهُ (إنْ نَوَى) مُتَرَدِّدًا بِأَنَّهُ (إنْ كَانَ) يَوْمُ الشَّكِّ (رَمَضَانَ فَعَنْهُ وَإِلَّا فَعَنْ نَفْلٍ أَوْ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ) أَمَّا فِي صُورَةِ تَرْدِيدِهِ بَيْنَ رَمَضَانَ وَنَفْلٍ فَلِأَنَّهُ نَاوٍ لِلْفَرْضِ مِنْ وَجْهٍ وَأَمَّا فِي صُورَةِ تَرْدِيدِهِ بَيْنَ رَمَضَانَ وَوَاجِبٍ آخَرَ فَلِتَرْدِيدِهِ بَيْنَ مَكْرُوهَيْنِ هَذَا إذَا كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَقَعُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عِنْدَ الْإِمَامِ كَمَا بُيِّنَ آنِفًا.
وَفِي الْفَتْحِ لَا يُكْرَهُ صَوْمُ وَاجِبٍ آخَرَ فِي يَوْمِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ رَمَضَانُ لَا غَيْرُ، وَلَوْ قَالَ وَإِلَّا فَعَنْ غَيْرِهِ لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَوْضَحَ (وَصَحَّ فِي الْكُلِّ) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ وَكُرِهَ صَوْمُهُ إلَى قَوْلِهِ وَاجِبٍ آخَرَ (عَنْ رَمَضَانَ إنْ ثَبَتَ) أَيْ إنْ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ صَحَّ لِوُجُودِ أَصْلِ النِّيَّةِ.
(وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رَمَضَانُ (فَمَا نَوَى إنْ جَزَمَ) وَفِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ كَانَ نَوَى رَمَضَانَ يَكُونُ تَطَوُّعًا وَإِنْ أَفْطَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ظَانٌّ وَإِنْ كَانَ نَوَى وَاجِبًا غَيْرَ رَمَضَانَ قِيلَ يَكُونُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ وَقِيلَ يَجْزِيهِ عَنْ الَّذِي نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَى هَذَا إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِمَا نَوَى وَاجِبًا غَيْرَ رَمَضَانَ لَكِنْ تَبْقَى صُورَةُ نِيَّةِ رَمَضَانَ قَطْعًا وَلَمْ يَثْبُتْ.
تَدَبَّرْ.
(وَ) يَصِحُّ عَنْ (نَفْلٍ إنْ رَدَّدَ) فِي وَصْفِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ مَوْجُودٌ وَهُوَ كَافٍ فِي النَّفْلِ وَلَوْ أَفْسَدَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
(وَإِنْ قَالَ إنْ كَانَ) الْغَدُ الَّذِي هُوَ يَوْمُ الشَّكِّ وَاقِعًا مِنْ (رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا) أَصُومُ أَصْلًا (لَا يَصِحُّ، وَلَوْ) وَصْلِيَّةٌ (ثَبَتَ رَمَضَانِيَّتُهُ) لِعَدَمِ الْجَزْمِ فِيهَا فَلَا تُوجَدُ النِّيَّةُ (وَلَا يَصِيرُ صَائِمًا) كَمَا لَوْ نَوَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَجِدْ غَدَاءً فَهُوَ صَائِمٌ وَإِلَّا فَفَطَرَ، وَلَوْ تَرَكَ قَوْلَهُ وَلَا يَصِيرُ صَائِمًا لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الصَّوْمِ.
(وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ) كَغَيْمٍ وَغُبَارٍ وَغَيْرِهِمَا هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ ثُبُوتِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَوُجُوبِ ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ بِهِ (قُبِلَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ خَبَرُ عَدْلٍ) وَاحِدٍ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ لِمَا صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَحَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ مَلَكَةٌ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ وَأَدْنَاهَا تَرْكُ الْكَبَائِرِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا (وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أُنْثَى أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ تَابَ) وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ الْإِمَامِ نَفْيُ رُؤْيَةِ الْمَحْدُودِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الْعَدَالَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَأَمَّا مَسْتُورُ الْحَالِ فَعَنْ الْإِمَامِ قَبُولُهُ وَصَحَّحَهُ الْبَزَّازِيُّ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الْقَبُولَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِتَفْسِيرِ الْمَرْئِيَّةِ.
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا فَسَّرَ وَقَالَ رَأَيْت الْهِلَالَ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ يَقُولَ: رَأَيْتُهُ فِي الْبَلْدَةِ بَيْنَ خَلَلِ السَّحَابِ فِي وَقْتٍ يَدْخُلُ فِي السَّحَابِ ثُمَّ يَنْجَلِي أَمَّا بِدُونِ هَذَا التَّفْسِيرِ لَا تُقْبَلُ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ وَعَنْ الْحَسَنِ يُشْتَرَطُ النِّصَابُ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ.
(وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ) وَفِي الْخَانِيَّةِ وَلَا تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى وَلَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْإِخْبَارَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ فِي الْفِطْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ الْفِطْرُ فَهُنَا أَوْلَى.
(وَ) شُرِطَ مَعَ الْعِلَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (فِي هِلَالِ الْفِطْرِ) أَيْ فِي شَوَّالَ (وَذِي الْحَجَّةِ شَهَادَةُ حُرَّيْنِ أَوْ حُرٍّ وَحُرَّتَيْنِ) وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ وَاحِدٍ (بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ) وَالْحُرِّيَّةِ وَعَدَمِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِلْزَامِ (وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ بِخِلَافِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْأَضْحَى كَهِلَالِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ كَالْفِطْرِ لِنَفْعِ الْعِبَادِ بِهِ بِالتَّوَسُّعِ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيّ مَعَ أَنَّ فِيهِ نَفْعًا آخَرَ وَهُوَ الْإِحْلَالُ مِنْ الْحَجِّ (لَا الدَّعْوَى) لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ.
وَفِي الْعِدَّةِ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا الدَّعْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الْكُلِّ وَعِتْقِ الْعَبْدِ فِي قَوْلِهِمَا وَفِي الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْإِمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الدَّعْوَى فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَهِلَالِ رَمَضَانَ كَمَا فِي عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ.
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ) مِمَّا ذَكَرْنَا (فَلَا بُدَّ فِي الْكُلِّ) أَيْ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى (مِنْ جَمْعٍ عَظِيمٍ) غَيْرِ مُقَدَّرٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) وَيْحُكُمْ الْعَقْلُ بِعَدَمِ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْعِلْمِ هُنَا مَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهُوَ غَالِبُ الظَّنِّ لَا الْعِلْمُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ نَصَّ الْيَقِينِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْغَايَةِ؛ لِأَنَّ التَّفَرُّدَ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ الْغَفِيرِ مَعَ تَوَجُّهِهِمْ طَالِبِينَ لِمَا تَوَجَّهَ هُوَ إلَيْهِ مَعَ فَرْضِ عَدَمِ الْمَانِعِ وَسَلَامَةِ الْأَبْصَارِ يُوهِمُ الْغَلَطَ بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَلَّ الْمُطَّلِعُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِحِدَّةِ نَظَرِهِ بِأَنْ يَنْشَقَّ الْغَيْمُ فَيَتَّفِقَ لَهُ النَّظَرُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّفَرُّدِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا تَفَرُّدُ مَنْ لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ لَا تَفَرُّدُ وَاحِدٍ وَإِلَّا لَأَفَادَ قَبُولَ اثْنَيْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ثُمَّ قِيلَ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ خَمْسُونَ رَجُلًا كَمَا فِي الْقَسَامَةِ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ خَمْسُمِائَةٍ بِبَلْخٍ قَلِيلٌ فَبُخَارَى لَا تَكُونُ أَدْنَى مِنْ بَلْخِي فَلِذَا قَالَ الْبَقَّالِيُّ الْأَلْفُ بِبُخَارَى قَلِيلٌ وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْوَفَاءُ وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ مَسْجِدٍ جَمَاعَةٌ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ يُفَوَّضُ مِقْدَارُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي التَّجْنِيسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ رَأْيَ الْإِمَامِ.
وَفِي الْفَتْحِ وَالْحَقُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ وَمَجِيئِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.
وَفِي الزَّادِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
(وَفِي رِوَايَةِ) الْحَسَنِ عَنْ الْإِمَامِ (يُكْتَفَى بِاثْنَيْنِ) رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَفِي الْبَحْرِ وَلَمْ أَرَ مَنْ رَجَّحَهَا مِنْ الْمَشَايِخِ وَيَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهَا فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَكَاسَلُوا عَنْ تَرَائِيِ الْأَهِلَّةِ فَانْتَفَى قَوْلُهُمْ مَعَ تَوَجُّهِهِمْ طَالِبِينَ لِمَا تَوَجَّهْ هُوَ إلَيْهِ فَكَانَ التَّفَرُّدُ غَيْرَ ظَاهِرٍ فِي الْغَلَطِ انْتَهَى.
لَكِنْ فِي دِيَارِنَا لَيْسَ كَمَا قَالَهُ فَعَدَمُ التَّرْجِيحِ أَوْلَى تَدَبَّرْ.
(وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ إنْ جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ أَوْ كَانَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ) قَالَ الْمَوْلَى ابْنُ كَمَالٍ الْوَزِيرُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ الْمِصْرِ وَأَمَّا إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ أَوْ جَاءَ مِنْ أَعْلَى الْأَمَاكِنِ فِي مِصْرٍ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ.
وَفِي الْأَقْضِيَةِ صَحَّحَ رِوَايَةَ الطَّحَاوِيِّ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ فَإِنَّ هَوَاءَ الصَّحْرَاءِ أَصْفَى فَيَجُوزُ أَنْ يَرَاهُ دُونَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ لِاخْتِلَافِ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ قَالَ فِي خِزَانَة الْأَكْمَلِ أَهْلُ إسْكَنْدَرِيَّةَ يُفْطِرُونَ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَلَا يُفْطِرُ مَنْ عَلَى مَنَارَتِهَا؛ فَإِنَّهُ يَرَاهَا بَعْدُ حَتَّى تَغْرُبَ لَهُ هَذَا عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّ مَا قَالَ أَهْلُ التَّنْجِيمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِمْ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ مُنَجِّمًا فَصَدَّقَهُ بِمَا قَالَ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَعَنْ الْإِمَامِ فِي رِوَايَةٍ إنْ رَأَى الْقَمَرَ قُدَّامَ الشَّمْسِ فَلِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَإِنْ رَآهُ خَلْفَهَا فَلِلْمُسْتَقْبِلَةِ: وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَكُونَ مَجْرَاهُ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْخَلْفُ إلَى الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ سَيْرَ السَّيَّارَةِ إلَى الْمَشْرِقِ فَالْقَمَرُ إذَا جَاوَزَ الشَّمْسَ تَرَى الْهِلَالَ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَلَوْ رَأَوْا الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ وَمُحَمَّدٌ وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إلَى أَنَّهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَلِلْمَاضِيَةِ أَمَّا بَعْدَ الْعَصْرِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَعَنْ الْإِمَامِ إنْ غَابَ قَبْلَ الشَّفَقِ فَمِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ.
وَفِي التَّجْنِيسِ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلُهُمَا.
(وَلَوْ صَامُوا ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَرَوْهُ حَلَّ الْفِطْرُ إنْ صَامُوا) أَيْ إنْ كَانُوا ابْتَدَءُوا الصَّوْمَ (بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ) عَدْلَيْنِ وَالسَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةٌ وَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ مِنْ أَنَّهُ سَوَاءٌ تَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ فِي الزَّمَانَيْنِ أَوْ لَا لَا يَخْلُو عَنْ خَلَلٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ يَلْزَمُ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ وَلَمْ يُقْبَلْ خَبَرُ اثْنَيْنِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ تَدَبَّرْ.
وَإِنَّمَا حَلَّ الْفِطْرُ فِيهِ لِوُجُودِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِهِ وَكَذَا لَوْ كَانُوا اسْتَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ.
وَفِي الْفَتْحِ: إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِ رُؤْيَةٍ بَلْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالَ إنْ كَانُوا أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ إذَا لَمْ يَرَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَضَوْا يَوْمًا وَاحِدًا حَمْلًا عَلَى نُقْصَانِ شَعْبَانَ غَيْرَ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ وَإِنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ قَضَوْا يَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ نُقْصَانِ شَعْبَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَرَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ كَانُوا بِالضَّرُورَةِ مُكْمِلِينَ رَجَبَ.
(وَإِنْ) صَامُوا (بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ لَا يَحِلُّ) لَهُمْ الْفِطْرُ سَوَاءٌ تَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ فِي الزَّمَانَيْنِ أَوْ لَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ تَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ فِيهِمَا حَلَّ الْفِطْرُ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا صَحَتْ.
(وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ أَوْ الْفِطْرَ) وَحْدَهُ وَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي (وَرَدَّ قَوْلَهُ) بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ (صَامَ) فِي الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَهَذَا قَدْ شَهِدَهُ وَفِي الثَّانِي لَا يُفْطِرُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «صَوْمُكُمْ يَوْمَ يَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ يُفْطِرُونَ،» النَّاسُ لَمْ يُفْطِرُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ مُوَافَقَتُهُمْ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ لَكِنْ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ عِنْدَهُ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَ حَاكِمٍ وَالشَّهَادَةُ لَازِمَةٌ لِئَلَّا يُفْطِرَ النَّاسُ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَلَوْ مُتَخَدِّرَةً وَكَذَا الْفَاسِقُ إنْ عَلِمَ قَبُولَ قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ حَاكِمٌ يَشْهَدُ فِي الْمَسْجِدِ وَصَامُوا بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ عَدْلًا وَلَا بَأْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُفْطِرُوا إذَا أَخْبَرَ رَجُلَانِ فِي هِلَالِ شَوَّالَ وَالسَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ وَالٍ.
وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ وَحْدَهُ أَوْ الْقَاضِي وَحْدَهُ هِلَالَ رَمَضَانَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُنَصِّبَ مَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَأَى الْإِمَامُ وَحْدَهُ أَوْ الْقَاضِي وَحْدَهُ هِلَالَ شَوَّالَ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَى الْمُصَلَّى وَلَا يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ.
(وَإِنْ أَفْطَرَ) مَنْ رُدَّ قَوْلُهُ (قَضَى فَقَطْ) بِلَا كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ أَمَّا فِي هِلَالِ الصَّوْمِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَأَمَّا فِي هِلَالِ الْفِطْرِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ عِنْدَهُ.
وَلَوْ أَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِلِاحْتِيَاطِ وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا أَفْطَرَ قَبْلَ رَدِّ الْإِمَامِ شَهَادَتَهُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِيهِمَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْكَفَّارَةَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا إنْ أَفْطَرَ بِالْوِقَاعِ.
(وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ) وُجُوبَ كِفَايَةٍ (الْتِمَاسُ الْهِلَالِ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَمِنْ رَمَضَانَ) وَكَذَا ذُو الْقِعْدَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِذَلِكَ.
(وَإِذَا ثَبَتَ فِي مَوْضِعٍ لَزِمَ جَمِيعَ النَّاسِ) وَلَا اعْتِبَارَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ حَتَّى قَالُوا لَوْ رَأَى أَهْلُ الْمَغْرِبِ هِلَالَ رَمَضَانَ يَجِبُ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِطَرِيقٍ مُوجِبٍ كَمَا لَوْ شَهِدُوا عِنْدَ قَاضٍ لَمْ يَرَ أَهْلُ بَلَدِهِ عَلَى أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا جَازَ لِهَذَا الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي حُجَّةٌ وَقَدْ شَهِدَا بِهِ وَأَمَّا لَوْ شَهِدَا أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةِ كَذَا رَأَوْا الْهِلَالَ قَبْلَكُمْ بِيَوْمٍ وَهَذَا يَوْمُ الثَّلَاثِينَ فَلَمْ يُرَ الْهِلَالُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ فَلَا يُبَاحُ الْفِطْرُ غَدًا وَلَا يُتْرَكُ التَّرَاوِيحُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يَشْهَدُوا بِالرُّؤْيَةِ وَلَا عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا حَكَوْا رُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْخَبَرَ إذَا اسْتَفَاضَ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَتَحَقَّقَ يَلْزَمُهُمْ حُكْمُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ (وَقِيلَ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ) وَفِي التَّبْيِينِ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُعْتَبَرَ هَذَا الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ يُخَاطَبُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ، وَانْفِصَالُ الْهِلَالِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ كَمَا أَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ وَخُرُوجَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا.
وَقَالَ فِي الدُّرَرِ يُؤَيِّدُهُ مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ لَا تَجِبُ بِفَاقِدِ وَقْتِهِمَا.
وَفِي الِاخْتِيَارِ وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى الْحُسَامِيَّةِ إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِرُؤْيَةٍ وَأَهْلُ مِصْرٍ آخَرَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا بِرُؤْيَةٍ فَعَلَيْهِمْ قَضَاءُ يَوْمٍ إنْ كَانَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ قُرْبٌ بِحَيْثُ يَتَّحِدُ الْمَطْلَعُ وَإِنْ كَانَ بَعُدَ بِحَيْثُ يَخْتَلِفُ لَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْمِصْرَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ، وَحَدُّهُ عَلَى مَا فِي الْجَوَاهِرِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصَاعِدًا اعْتِبَارًا بِقِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ انْتَقَلَ كُلَّ غُدُوِّ وَرَوَاحٍ مِنْ إقْلِيمٍ إلَى إقْلِيمٍ وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ.